سيدنا موسى عليه السلام والسحرة

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين .
سيدنا موسى عليه السلام والسحرة



(1)
عاد سيدنا موسى إلى مصر بأمر الله رسولاً إلى فرعون الذي طغى وبغى وجعل من نفسه إلهاً على شعبها ، وذهب سيدنا موسى إلى أهله وفرح بهم وفرحوا به فرحاً عظيماً ، وحكى لهم ما حدث له عند جبل الطور وكيف اختاره الله تعالى رسولاً إلى فرعون.. لقد تحقق لأمه ما وعدها الله به منذ سنين بعيدة وبعث الله ولدها موسى نبياً ورسولاً .
وأوحى الله لسيدنا موسى وأخيه سيدنا هارون أن :اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى ، ولا تغلظا له في القول حتى لا يثور وتأخذه العزة بالإثم فيتسبب في إذائهما ، وقال الرسولان : ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا فيستعجل عقابنا قبل أن يتنبه للصواب وقبل أن نقدّم له المعجزة التي تدل على صدقنا وأن يطغى ، فقال الله تعالى :لا تخافا إني معكما أسمع وأرى ما يجري . وأمر الله سيدنا موسى وسيدنا هارون أن يطلبا من فرعون أن يرسل معهما بني إسرائيل جميعاً ليخرجاهم من مصر إلى حيث يعبدون الله بعياً عن الإضطهاد والذل والعذاب .
واستأذن سيدنا موسى وسيدنا هارون في الدخول إلى فرعون ، وقال لهسيدنا موسى عليه السلام :إني رسول رب العالمين فأنعم علينا وارسل معنا بني إسرائيل يعبدون ربهم ونكون لك من الشاكرين .سخر فرعون من قول سيدنا موسى وقال له : ألم نربك بيننا وأنت صغير وبقيت معنا سنين طويلة وفعلت فعلتك بقتلك المصري وأنت من الكافرين ؟ قال سيدنا موسى :فعلتها وأنا مخطئ ضال ففررت منكم لأني خفتكم فوهب لي ربي حكماً وجعلني من المرسلين . فسأله فرعون :فمن ربك يا موسى ؟ من رب العالمين ؟ قال سيدنا موسى : ربنا الذي خلقنا وهدانا وجعل لنا الأرض ممهّدة لنتخذ فيها مسالك وطرق وأنزل من السماء ماء فأخرج به أزواج من نباتات مختلفة ، ربنا رب السموات والأرض وما بينهما ، ربكم ورب آبائكم الأولين .فضحك فرعون والتفت إلى أهل مجلسه يقول :ألا تسمعون ؟ إن رسولكم الذي أُرسل إليكم لمجنون .
واستمر سيدنا موسى في تعريف فرعون والحاضرين حقيقة الألوهية ومن هو الله الذي تجب عبادته فقال :رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون . وضاق فرعون بقول سيدنا موسى فقال يهدده غاضباً حانقاً :لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين . عندئذٍ لم يجد سيدنا موسى عليه السلام بُداً من أن يُظهر لفرعون آية الله فقال :هل تصدقني وتؤمن بي لو جئتك بمعجزة مبينة ؟ قال فرعون :فأت بها إن كنت من الصادقين . فألقى سيدنا موسى على الأرض عصاه فإذا هي ثعبان يتحرك أمام الحاضرين ، وفزع فرعون وقومه ، ثم وضع سيدنا موسى يده في جيبه وأخرجها يداً بيضاء مثل الثلج تشع ضياءً ، ثم أعادها إلى جيبه وأخرجها فعادت مثل ما كانت عليه من قبل . دهش الحاضرون ولما استردوا روعهم قاموا يقولون :إن هذا لساحر عليم . وقال سيدنا موسى : أتقولون للحق لما جاءكم سحر ، يا فرعون إني رسول من رب العالمين حقيق عليّ ألا أقول على الله إلا الحق ، قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل . ولكن فرعون هز رأسه مكابراً وقال لقومه : هذا الساحر يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره ليكون له ولقومه الكبرياء في الأرض ، فبماذا تأمرون ؟ قالوا ابقه عندك وابعث إلى سحرة مملكتك فإن أتوا بما أتى بطلت دعواه وكذبت معجزته . فصاح فرعون يؤكد ألوهيته : ياأيها الملأ ، ما علمت لكم من إله غيري والتفت إلى وزير أشغاله وقال له : يا هامان ابني لي صرحاً عالياً لعلي أبلغ السموات فأطلع إلى إله موسى ، وإني لأظنه كاذباً فيما يدعيه.
وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصده عن سواء السبيل .
"قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين * فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين * ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين * قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم * يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون * قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين * يأتوك بكل ساحر عليم" .[ الأعراف : 106 - 112] .
(2)
انصرف هامان لبناء الصرح الذي طلبه منه فرعون ، أما فرعون فقد بعث إلى السحرة من جميع أنحاء البلاد ، وطلع فرعون إلى السحرة فأطلعهم على أمره فقال له كبراؤهم :هل لنا أجر إن كنا نحن الغالبين ؟ قال : نعم وتكنون من المقرّبين لدينا . وفرح السحرة بما وعدهم به فرعون.
أرسل فرعون إلى سيدنا موسى يدعوه لمواجهة السحرة ويطلب منه تحديد ميعاد يتقابل وأياهم فيه ، فكان جواب سيدنا موسى : موعدكم ضحى يوم العيد. وفي اليوم الموعود أتى سيدنا موسى وبصحبته أخوه هارون فوجد فرعون وكان السحرة قد حشروا في جانب من القاعة بسبب الإزدحام ، وقصد سيدنا موسى إلى رؤساء السحرة وقال لهم : ويلكم لا تفتروا على الله كذباً فينالكم عذابه فقد خاب من افترى . ومال السحرة على بعضهم يتشاورون فقالوا : هذان ساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبان بطريقتكم المثلى فأجمعوا كيدكم جميعاً واتحدوا ليكون النجاح لنا . فلما انتهوا قالوا : يا موسى أتلقي أنت أولاً أم نلقي نحن ؟ قال سيدنا موسى : بل ألقوا ما أنتم ملقون .قالوا : بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون.. ثم ألقوا بعصيهم وحبالهم فخُيل لسيدنا موسى والحاضرين أنها حيّات تتحرك ، وفرح فرعون ولمعت في عينيه نشوة النصر ، وأوجس في نفسه خيفة سيدنا موسى ، فأوحى إليه الله : لا تخف إنك أنت الأعلى وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا ، إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى .
"قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين * قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم * وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون * فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون * فغُلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين". [ الأعراف : 115 - 119] .
زال عن سيدنا موسى الخوف وألقى عصاه وهو يقول : إن الله سيبطل ما جئتم به من السحر إنه لا يصلح عمل المفسدين . واتجهت الأنظار إلى عصا سيدنا موسى التي ألقاها، فإذا هي قد صارت حيّة كبيرة تلقم ما في الساحة من حيّات ، واتسعت العيون دهشة وشحب وجه فرعون ، لقد ظفر سيدنا موسى وانتصر على السحرة ، ثم رأى فرعون ما هو أشد إيلاماً عندما اتجه السحرة إلى سيدنا موسى يركعون بين يديه وقد ارتفعت أصواتهم يقولون :آمنا برب موسى وهارون . أما فرعون فلم يحتمل فصاح في غضب شديد يتّهم السحرة ويهدّدهم :آمنتم قبل أن آذن لكم ؟! إذن هو مكر مكرتموه واتفاق اتفقتم عليه .. إنه لكبيركم الذي علمكم السحر.. وعزّتي لأقطّعن أيديكم ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذباً وأبقى . فكان جواب السحرة : إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى . فصاح ينادي في الملأ : أنا ربكم الأعلى ، وأمر فرعون أن يساق السحرة إلى حيث ينفذ فيهم حكمه ، ولم يجزع السحرة بل أنزل الله على قلوبهم السكينة فكانوا يقولون :لا ضير من ذلك .. إنا إلى ربنا راجعون ، إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين .. ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين .
وترك إيمان السحرة بسيدنا موسى أثراً في نفوس الحاضرين ، فمنهم من آمن ولكن لم يستطيعوا الجهر بسبب ما رأوه من عذاب فرعون للسحرة ، ونالت السيدة آسية زوجة فرعون والتي ربّت سيدنا موسى صغيراً نفس المصير فقد عذبها فرعون كي ترتد عن إيمانها بالله فكانت تقول: رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين و ارتضت الموت في سبيل ربها .
(3)
اجتمع رجال فرعون به وقالوا له: أوستترك موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويدعو الناس للإنصراف عنك ؟ فكان جواب فرعون : سوف نقتّل أبناءهم ونستحيي نساءهم ، أما موسى فسأقتله ، وهنا هبّ رجل كان قد صدق بسيدنا موسى – هبّ يدافع ويجادل قومه : يا قوم أتقتلون رجلاً يقول ربي الله وقد جاءكم ببيّنات صادقة ؟ أتركوه فإن كان كاذباً فعليه كذبه وإن كان صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم ، إن الله لا يهدي من هو مسرف كذّاب ، يا قوم إن لكم القوة والمُلك اليوم في الأرض فمن ينصرنا غداً من بأس الله ؟ إني أخاف عليكم أن يصيبكم مثل الذي أصاب الأمم من قبلكم ، كقوم نوح وقوم هود وقوم صالح وغيرهم ، وما الله يريد ظلماً للعباد . لقد جاء يوسف إلى آبائكم من قبل بالبيّنات فما زالوا في شك من أمره حتى إذا مات قالوا لن يبعث الله من بعده رسولاً كذلك يضل الله من هو مكذّب مرتاب . غضب الحاضرون من كلام الرجل وحاولوا أن يدعونه للعودة إليهم وعبادة آلهتهم فقال لهم : يا قوم اتبعوني أهدكم سبيل الرشاد ، مالي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار تدعونني لأكفر بالله وأشرك به وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار . سمع فرعون هذا الكلام فصاح قائلاً : أليس لي حكم مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون ؟ أألقي عليه ذهب أم جاء معه الملائكة ؟ سخر الناس من كلام فرعون فما كان منه إلا أن أمر بتقتيل الأبناء واستحياء النساء .
(4)
نُفّذ حكم فرعون في أبناء بني إسرائيل فأسرع أهلهم إلى سيدنا موسى يقولون له : أُوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد أن جئتنا . فقال لهم : استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء إني عُذت بالله من هؤلاء الكفار عسى الله أن يهلكهم ويستخلفكم في الأرض التي وُعدتم بها . واتجه سيدنا موسى إلى ربه يدعوه لنصرة بني إسرائيل : ربنا إنك أتيت فرعون وقومه زينة وأموالاً في الحياة فكفروا بك وضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا تهدهم للإيمان حتى تريهم العذاب الأليم ، ودعا سيدنا هارون معه فأوحى الله إليهما أن قد أُجيبت دعوتكما .
حاول سيدنا موسى أن يُنذر فرعون وقومه بأن الله سيصيبهم بعذاب أليم ولكنهم سخروا منه وقالوا : مهما تأتنا من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين . عاقب الله سبحانه وتعالى قوم فرعون بطوفان أغرق أرضهم وضاعت أموالهم وأدركوا أن ما أصابهم هو ما أنذرهم به سيدنا موسى فأسرعوا يسألونه : يا موسى ادع لنا ربك بما عُهد عندك لئن يكشف عنا هذا السوء لنؤمنن بك ونرسل معك بني إسرائيل . ودعا سيدنا موسى ربه فكشف الله عنهم العذاب فلما رأوا أرضهم عادت تُثمر وأموالهم اوشكت أن تعود ، تولوا عن سيدنا موسى ونكثوا عهدهم معه ، فأرسل الله عليهم الجراد فأكل زرعهم فعادوا يتوسلون لسيدنا موسى فدعا ربه أن يرفع عنهم الجراد فعادوا إلى سخريتهم ونكثوا العهد .. وهكذا ينزّل الله تعالى عليهم العذاب تلو العذاب فيسرعوا إلى سيدنا موسى يستعطفونه ويستنجدون به ليدعو ربه ، فإذا كشف الله عنهم العذاب عادوا مرة أخرى لعتوهم واستكبارهم .
وأذن الله لسيدنا موسى أن يسير ببني إسرائيل ليخرجهم من مصر وينقذهم مما يعانونه من عذاب وبؤس وذل . فأعلم سيدنا موسى شيوخ بني إسرائيل بما أمره الله به ولكنهم أبدوا تخوّفهم وشكهم في إمكانية هروبهم من بطش فرعون مصر الجديد ، فقال لهم سيدنا موسى أن الله وعد أن يكون معهم وسيزوّدهم بعد خروجهم من مصر بالوصايا الصالحة والتعليمات التي يجعلهم يعيشون عيشة آمنة مطمئنة.
كان الطوفان قد أخذ أموال المصريين إلا بعض الحلي والنقود التي ادخروها ، فكانت الإسرائيلية تذهب إلى المصرية بحجة استعارة بعض الحلي لتتزين بها في عيدهم ، وأعطت المصريات حليهن للإسرائيليات ، وفي الليلة التي حددها سيدنا موسى خرج بنو إسرائيل متسللين من مصر وساروا حتى اقتربوا من حدود مصر الشرقية . وفطن المصريون لما حدث فأبلغوا فرعون فهدد وتوعد واستدعى جنوده وخرجوا ليحاربوا الإسرائيليين يقودهم فرعون .
وبالقرب من البحر تراءى الجمعان ، نظر سيدنا موسى وبنو إسرائيل معه فوجدوا فرعون وجنوده خلفهم ، ورأوا البحر من أمامهم فوجفت قلوبهم وتمتمت شفاههم : إنا لمدركون ، فقال سيدنا موسى مطمئناً واثقاً : كلا إن معي ربي سيهدين . عندئذٍ أوحى الله إلى سيدنا موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق البحر فلقتين فكان كل فلق كالجبل الشامخ وأشار سيدنا موسى إلى قومه فعبروا على أرض يابسة ، أما فرعون فلما بلغ مكان العبور وقف مبهوتاً مذهولاً وأمر جنوده أن يتبعوا موسى وبني لإسرائيل واندفع هو ليعبر الطريق الذي انفرج في البحر فانطبق الماء على فرعون وجيشه ومن بين سكرات الموت قال فرعون : آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل . آلآن يا فرعون تؤمن وقد عصيت من قبل وكنت من المفسدين ....؟
وقذفت الأمواج بجثة الطاغية وصدق بنو إسرائيل أن فرعون قد مات . وهكذا انجاك الله يا فرعون ببدنك لتكون لمن خلفك آية ، وإن كثيراً من الناس عن آيات الله لغافلون.


وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين والحمد لله رب العالمين .